الحسين راية حق
فقه الموائد وفقه النوائب
العقل مرة أخرى والعقول مرات عديدة فكرة ترويض العقل البشرى البكر الفطري الترويض بالترغيب والترهيب منظومة لم يعهدها الإنسان في بداية خلقه بسبب الانطلاق الجامح واللا محدود لحياته البسيطة البدائية وسرعان ما تبدأ المرحلة الثانية لخلق الإنسان وهى ترويضه وتقييم سلوكه المتمرد فأرسل الله الرسل مبشرين ومنظرين بأن العلة من خلقه لم تكن منعدمة الغاية ولكن مطلوب منه دور يجب أن يؤهل له ليستقيم خلقه سلوكه وتبدأ رحلة المعاناة للأنبياء والرسل مع الوافد الجديد للأرض والصراع بين عقول تربت في حضانات خاصة تكفل بها الله ( وهم الأنبياء والرسل )وأخرى خلقت بلا قيود فكان عليه أن يتقبل الدروس المؤهلة له والتي غالبا ما تتعارض مع الأهواء والطموحات المتحررة والمتعمقة في تكوينه فعان الأنبياء والرسل ما عانوه فقتل منهم من قتل ومنهم من هجر قومه ومنهم من عذب وأوذي وطرد لتنتهي رحلة الأنبياء بوضع أسس للسلوك الإنساني في هيئة قواعد ودساتير إلهية بداية بألواح سيدنا موسى ومن سبقه مرورا بالإنجيل منتهيا بالقرآن الكريم كآخر دستور للبشرية تختم به حياتها ثم مردهم إلى الغيب ولكن تمرده وأحيانا تناسيه أو نسيانه جعل ترويضه هو أسهل بكثير من ترويض الأسود ليس لطبيعة الأسود الشرسة ولكن بسبب رغبته وتقبله للترويض الذي يتماشى مع أمانيه وأحلامه فوجد الطامحون أنفسهم أمام قيود تشريعية تعيق لهم تحقيق ما يصبون إليه بفعل هذا الجدار العازل من التشريعات الإلهية والعائق لانطلاقاتهم الجامحة والطموحة كما ان تمردهم عليه يجلب لهم السخط والتمرد من عموم الشعب الرابضين على الجدار وهنا بدأ هؤلاء في التفكير في إيجاد مخرج وهى إفراز فئة تتبنى تليين وإذابة ولو بعض من ارتفاعات العوازل الإلهية الملزمة لهم تسمح لبعض أهواءهم بالقفز فجمعوا لهم طائفة من الذين تمكنت غرائزهم من عقائدهم إنهم فقهاء الموائد وعلماء الدرهم والدينار وكان دورهم هو تلميع الحاكم دينيا وأخلاقيا وإيجاد مخارج تشريعية لتصرفاته فتنزل تلك التشريعات على الدين فتلينه وعلى الحاكم تمجده وهذا الدور بدأ يمارسه بعض علماء الدين ضعاف النفوس وعباد النقود فأبحروا في فلك الحاكم ورسوا في مراسيه يأكلون طعامه ويفسرون قرآنه ويخلدون لسيرته ويمجدون ذكراه وما اضعف المتلقي وهشاشة عقله التي لم تستوعب بعد كل نواحي التعاليم فوجدوا طائفة من الشعب تؤوى إليهم وتصدقهم وتزود عنهم وغالبا ما يكونوا من البسطاء والقانعين بما آتاهم هنا تخندق هؤلاء خلف هذا الجدار يعبسون في الأوطان فسادا مشرعا وجد من التفسير المضلل ولوي عنق الآيات والأحاديث ممتطى مريح وآمن لهم وعلى الجانب الآخر ترعرع جيل على مر تاريخ نزوات الحكم من المتمردين والمناوئين لفقهاء السلطان وهم غالبا من المضطهدين والمقهورين والمهمشيين الطامحين والذين رأوا في علماء السلطة ما هم إلا حفنة من المأجورين فخلقوا لأنفسهم فقها خاصا بهم على اختلاف انتماءاتهم وميولهم فقها يميل إلى الجنوح والتشدد وليد الظرف الذي يمروان به فوجدوا من الأتباع والمريدين ممن اعتمروا إليهم وساندوهم وآووهم بفعل النوائب التي حاقت بهم وبأسرهم من زبانية السلطان حتى افرز كلا الطرفين فكرا مشوها ومنقوصا وربما متحاملا ومقصودا وهذا نتاجه عند الطرف الأول مغيبا بفعل المال والسلطة والجاه وكرامة العيش وإما بفعل القهر والاضطهاد عند الطرف الثاني حتى خرج علينا الموروث الثقافي والديني بمواقف ومآزق غير مبررة أو مقنعة كان ثمارها قتل وإهانة بعض الصحابة والتابعين ( كمقتل طلحة والزبير رضي الله عنهم وعمار بن ياسر وصلب عبد الله ابن الزبير رضي الله عنهم )ومقتل الحسين الفريد والنادر رضي الله عنه والمتابع للأحداث والسير يجد أن هذا حدث في فترة تتميز بشمولية الدين والعقيدة عند العامة أنفسهم لأنهم اقرب للسيرة منا ورغم ذلك تم اختراق عقولهم وتضليلهم بفعل علماء ضلوا وأضلوا واقل ما يقال منعا للتجريح وجدوا مسلكا فقهيا لتبرير تصرفات الحاكم وهذا ما وردنا وتتبعناه لنفاجئ أن ذلك لم يكن استثناء فريدا من نوعه في فترة تشابكت فيها المفاهيم والمعاني ولكن نكتشف أنها صارت بمثابة سنن كونية تمر بكل العصور والأجيال تبدأ من جيل الأولين حتى تحمل إلينا بنفس السلوك والأحداث.. لأن انقسام العلماء والفقهاء هو الخطر والمأزق فلم يعد مفهوم إخلاف العلماء رحمة مقبولا في مثل هذه المواقف والنوائب والأحداث الذي على إثره تراق دماء المسلمين وغير المسلمين المسالمين وهذا الفقه الذى قسم الأمة شيعا وأحزابا ... شعوبا يسيرها الدين وينظم سلوكياتها وان كانوا لا يعون ذلك يجدوا أنفسهم مستغليين باسم الدين لبتر سلوكيات تعودوا عليها وطقوس ورثوها فطريا ليستسلموا لعلماء أرادوهم لوجهة لا يعرفونها وهذا ما حدث ويحدث في الشعوب العربية والإسلامية الآن قتل من قتل في ليبيا ( تشير التقارير إلى نسبة الشهداء يزيد عن خمسون ألف ) ولم نجد عالما ليبيا تمترس بمظلة النظام جرم ذلك وعلى الجانب الأخر لم نرى عالما من علماء الطرف الآخر أقر بأن قتلة النظام مضللين ومغرر بهم وهكذا الحال باليمن وسوريا وتونس وفى مصر لم تكن أقل حالا من سابقيها وان زادت عليهم لم يشر عالما واحدا من علماء النظام في الأيام الأولى من الثورة بحرمة قتل الشباب بل زاد عليها أن بعض الحركات الإسلامية التزمت الحياد منتظرة ما تؤل إليه الأحداث وزاد البعض بفتاوى استهلكت واستثمرت من قبل ولا زالت تستثمر في بعض الأنظمة الحالية التي لم يطلها التغير وهى الخروج على الحاكم كفر ومعصية وغير جائز شرعا ولكن تبدل الحال وآلت الأمور للثوار البسطاء الذين أفتوا لأنفسهم وشرعوا لأنفسهم تشريعا جاء موافق للكتاب والسنة وهى خلع الحاكم الفاسد ومحاربة الفساد والظلم والاستبداد ليكتشف الجميع إسلاميين وعلمانيين أن العدالة والحرية هي فقط البيئة الصالحة للدين وتسرى العقائد والتعاليم فيها مسرى النسيم بين الصدور ونكتشف نحن أن بالحرية والعدالة الخائف فيها آمن والآمن فيها عادل فلم تحرق الكنائس أو تفجر المساجد ولم يخطف فيها مسيحي ولم يهرب فيها مسلم وأن القلوب واجفة والفتاوى هادئة فلا ضير من الحجاب ولا فساد مع المتبرجات وأنها دنيا الله وعالم الله والخلق خلق الله له فيه شئون ولهم فيه مآرب والله المستعان
الكاتب // محمد زين العابدين صبري