إهــــــــــــــــــــــــــــداء
ومن يومها وأنا ابحث عن وطني
..................................................................
ثمة أشياء قد تبعثرت في البيت القديم ، الذي يشرف على كل النواصي ونوافذه المفتوحة بكل الاتجاهات ، أتذكر آخر مرة دخلت البيت وقد تهالكت أبوابه وتعلقت خيوط العنكبوت بسقوفه الخشبية ذات اللون البرنزي واتخذت الخفافيش من أجنابه أعشاش ومراقد تمرق من حجرة إلى أخرى كالبرق لا أراها وصورة جدي الوحيدة اللاصقة بالجدار عند المدخل تلوح بيدها ترحيبا بالقادم ..... لم تفزعه وحشة المكان كما أفزعتني، أذكر طيف جدي الباهت في ذاكرتي ونحن صغار......ما أكثر الأجساد التي كان يؤويها هذا البيت ويحتويها جدي بين ذراعيه ،نتقافز حول المائدة كنت أعجز عن إحصاء الأيادي الممدودة تتلقف الخبز بشغف وضحك وجدي يشمر ساعديه ‘يغرس يده في (القصعة) تخرج مملوءة باللحم، يمد يده للمقرفصين .....يبدأ باليمين يزعق بصوت عالي (بسم الله الرحمن الرحيم) أبدا لم يرى أو ينظر لمن يعطيه وبعد أن ينتهي بصوت هادئ حنون يخاطبنا: "حد طلع من غير نايب"
أصرخ بصوت عالي منتفخ بخبث الأطفال "أنا يا جدي والله لم آخذ"
يضحك ويقتطع من نصيبه المتبقي وهو قليل ويعطيني ضاحكا فرحا يغمز لي فهو يعرف أنه أعطاني......
وبعد أن ننتهي نحن الصغار وبدون غسل أيدينا نهرول بين غرف البيت القديم ، نختلق الألعاب ونتشاجر فى اللعب ثم نتصافح وهو يتابعنا بعيونه القرمزية من على أريكته ،يسحب أنفاس (سيجارته) التي لم تفارق أنامله........ أحيانا كثيرة كان يفزع من على أريكته إذا احتدم الشجار بيننا و كثيرة كنا نختلق الشجار كما نختلق الألعاب ليشاركنا بأنفاسه وصوته الدافئ.
يوم وفاته وارته جدتي بعباءته ،حاولت غلق عينيه المارقتين خارج الباب من شراعة البيت، لم تخبرنا بشيء ونحن نلعب حوله وهو ممدد على أريكته دون حراك لم يشاركنا في شيء هذه المرة ..... تسارعت خطواتي كالعادة تجاه أريكته صرخت جدتي في وجهي "دعه نائم..." لم تخبرنا حتى أرسلت إلى أعمامي وأخوالي المنتشرين في الحقول الغربية.
هالنا ما فعله أبى عندما برك على ركبتيه يقبل قدم جدي ويديه وعيناه نازفتان بالدموع..... ساعتها أغلق عينيه وارتخت جميع أعضاء جسده الطري البارد.ومرت السنين ترتع في أجسادنا زمنا فلم يعد الصغار صغارا 0000
حملت زوجتي وأولادي إلى آخى الذي لم تراوده نفسه لزيارتي، كنت أحبه لأنه يشبه جدي في لون عينيه وهدوء طباعه ،قضينا طيلة النهار بداره المتواضعة الذليلة، نفترش أمام البيت نراقب الصغار وهم يلعبون ،يسرد إلى آذاني سيرة جدي الذي جاءه في منامه وطلب منه أن يبني له مقام بصحن البيت القديم....... قال لي أن هذا الحلم رآه أكثر من مرة وأقسم لي أنه من أولياء الله، تذكرت أن أريكة جدي بصحن البيت ، ذات مرة كانت جدتي تنظف البيت فغيرت موضع الأريكة ونسيت أن ترجعها إلى موضعها فلما دخل نهرها وطلب منها أن ترجعها وألا تقترب منها ثانية.
غافلتنا الشمس الطرية الباردة وتسربت منا خلف التباب المرتفعة حولنا ،أفاق أخي على صفرة الشمس تملأ المكان، هب واقفا وصرخ في زوجته "أدخلي الأولاد......" وأشار إلى الضباب المسقوف فوقنا "من هناك تأتي الذئاب الكاسرة"
أرجفني صراخه وهرولته ليسوق الصغار داخل الجدران.
لملمت مفاصلي المرتخية على العشب الأخضر النابت بالأرض وهممت بالوقوف وأنا أربت على كتفيه واذكره بوعده لي بالزيارة كاسرا عينى تجاه زوجتي لتلملم الأولاد وهو يصر ألا نغادره في هدير الظلام موحيا إلينا بغيبيات السير في ليل دامس، ولكن عجز أمام إصراري ورغبتي في الرحيل.....
انفلقت زوجته من بين عقب الباب تهرول تزج لنا اللوم على تسرعنا وعجلتنا وبين أحضانها (قرطاس) مملوء بالفاكهة زجته بصدر زوجتي قائلة:"ده للعيال" التي تلقفته بكفيها وهي تقبلها،
أقسمت ألا تطأ قدمه (راق) واحدة من الأرض لوداعنا وأن يظل بجوار بيته.
تعلق الصغار بكلتا يدي تتبعني زوجتي، نقسو على أرض دسناها من قبل قاصدين العودة وقد أبحرت الشمس خلف الجبال بمسافات وأطبق علينا الظلام فصرنا نتحسس الطريق بأقدام مكفوفة إلا من خيوط أشعة تمتصها الأرض من نجوم قد تسربت من ثقوب السماء .... وأنا أواصل السير وعيوني تمسح التلال المرتفعة حولنا وكأني أترقب شيء يطالعنا من ورائها. تفحصت السماء ثم الأرض ثم الجبال ،كان قرص القمر يتلصص علينا يطل باستحياء يراود الوجود بنور آت لا محالة حتى تخلص من نتوءات الجبل وتعلق بضباب السماء كامل مستدير فصرنا نرى أنفسنا وما حولنا ونحن نعجل الخطى بالطريق التي لا تنتهي ،
خرج من بين الرمال يتبعنا بخطى هادئة تمرق عيناه إلى قلبي فيفزعني ، دب الرعب بأوصالي حتى انتصب شعر رأسي فزعا وأنا أراه يقترب ظل يقترب وتنحصر المسافات بيننا ، التصق الصغار بسيقاني يرتجفان وزوجتي تدب على صدرها من هول ما رأت..... كان علي أن أتماسك ، ترعى في رأسي براكين من هواجس سوداء وهو يمعن النظر إلينا ، أتراه ابني ، أو ابني الصغير وربما ابنتي ، أو زوجتي وربما أنا،لا بد له من صيد، والمدى من حولنا يتسع ويضيق علينا، يتقدم بخطى ثابتة فلم يتبقى إلا أمتار وينتهي كل شيء، يواصل السير دون هوادة و أذناه منتصبتان إلى الأمام يتحسس الأرض بأنفه وعيناه الحمراء لا تفارقنا...... هو أيضا يدرس أثمن الصيد وربما راودته نفسه في الصيد كله.
ولما لا ، وهل يجد ما يسمن جوعه إلا وجبة كهذه تجعله يعوى ليملأ السماء صراخا........ لم يتبقى إلا مترا أو مترين ليكشر عن أنيابه رافعا أنفه إلى السماء يسيل لعابه بخيوط لزجة متصلة بالأرض ، أنيابه غائرة ومخالبه نافرة ،صرخ الصغار من حولي فقذفتهم خلفي لعلي أكفيهم شره و ينتهي الأمر سحبتني زوجتي بكلتا يديها حتى صارت أمامي ربما لأنها أجمعت حساباتها فهي بدوني ميتة بكل هؤلاء الصغار فلا عائل ولا زاد، سقط من بين يديها (القرطاس) وتناثرت حبات البرتقال تتدحرج على الرمال ، استقرت حبة منها بين قدميه عضها بأسنانه وأخذ يمرغها بالرمال ربما كان يداعبها راقصا احتفاء بالصيد ، كان لابد أن يتراجع خطوات كي يمهلني ثوان استرجع بها ذرات من الأمان الغائب والشجاعة المفقودة.
انحنيت على الأرض والتقطت حبة وقذفتها لأمتار هرول خلفها و أخذ يمرغها بالتراب ويطبق عليها بأسنانه فليفعل ما يحلو له فالوليمة بانتظاره طال الوقت أو قصر
انتهى من مداعبته لها كان يظنها جزءا من وليمته،أخذ يخطو إلينا ثانية ، التقطت حبة أخرى وقذفتها بكل ما أوتيت من قوة لأمتار عديدة وأمرتهم بأن يجمعوا (القرطاس) هرول خلفها ولم يداعبها ربما لأنه اكتشف بعد المسافة عن فريسته ، شمها بأنفه وتركها ورجع إلينا، أيقن أننا نراوغه ،كان الوقت كافي لشعيرة من تفكير حتى يدوس هو كل هذه الأمتار بخطواته الهادئة ، داهمتني صورة جدي تتهادى أمامي في الأفق البعيد كخيوط دخان بيضاء برائحته الذكية تنغرس قدماه في الأرض وتناطح رأسه سقف السماء تتوهج صفحات وجهه ،تهدهد لحيته الطويلة البيضاء نسمة طرية ليست بالعابرة تسكن صدره الناصع بالبياض ،يشير إلى البيت القديم وأبوابه البرنزية المفتولة بجدرانه حتى سقف البيت.
لم يكن أيامها نسمع عن الذئاب إلا في حواديت جدي، ينسج من خياله حكايات تشخص أبصارنا وتسلب مسامعنا وتسحب عقولنا وأنه كيف لوي ذئبين شرسين بين زنديه بالبراري وجرهما من ذيولهما ميتين داخل القبو ثم حنطهما وجعلهما عالقين بالباب الرئيسي ليكونا عبرة لكل الذئاب ، نحن لم نرى شيء معلقا بالباب لأن ذلك كان في عقود صباه ، آه... ما أحوجني الآن إليك وإلى حكاياتك لتشد من أزري،ظل الذئب يتوجع الخطى إلينا ومخالبه تحنو على الأرض وتقسو علينا.... وأنا أتراجع إلى الخلف معطيا ظهري للفراغ ورائي فاردا كلا ذراعي أظلل أبنائي من خلفي محاولا طرق المسافات بيننا ارتطمت بصخرة تدك أوتادها في أحشاء الأرض فانطرحت فوقها غاص سنها المدبب في ساعدي لتنفجر منه جداول من دمائي الساخنة و المرتبكة ،صرخت زوجتي وتكومت فوقي فسقط منها (القرطاس)وهي تساعدني على الوقوف ثانية أمام هذا المتربص بنا
ارتوى (القرطاس)بدمائي وجزءا من خمارها المدلى على صدرها طالته الدماء ،أمسكت حبة البرتقال وقذفتها بعيدا آملة أن يعدو خلفها حتى تستطيع استجماع ما تبعثر مني ،هرول خلفها وأطبق عليها بأسنانه وابتلعها هذه المرة، أخيرا سكن جوفه بما قد يغنيه عن وجبته المنتظرة ولكن عاد إلينا أكثر شراسة وزادت أنيابه في انفراجها واتسعت مقل عينيه
لمحت الدبابيس المغروسة بخمار زوجتي ، انتزعت واحدا وغرسته في جوف برتقالة بعد أن غمرتها بدمى المبحر فوق ذراعي وقذفتها بعيدا هرول خلفها وابتلعها ثم عاد ، وقد زادت ضراوته بعد أن ذاق طعم دمائنا الباردة المستباحة.
لم يتبقى في (القرطاس) إلا برتقالة واحدة وتنتهي حيلنا التي ضاق بها صدره ، وهو ينتظر ما الذي سنفعله بعد هذه الألاعيب الصبيانية ، انتزعت دبوسا وغرسته بأطراف آخر برتقالة مروية بدمائي وجعلته نافذا بكلا الجانبين وقذفتها هرول خلفها فاردا أنيابه ومخالبه على مداها بسط ذراعيه حولها وكأنه يودعها لفها بين فكيه وأخذ (يلوكها) وهو يضرب بمخالبه الأرض ثم يعلقها في الفراغ من حوله ، أخذ يدور حول محيط جسده فاقدا توازنه وهو يزيد في العويل ويترنح ،يقع على الأرض تارة وينتصب ليقع ، أخيرا .... أطبق الدبوس على سقوف حلقه كان صراخه يفزع القلوب، حملت صغيري وهو من خلفي نهرول نقصف الأرض بكعوب تلوذ بالأمان تطاردنا صرخاته حتى لاحت لنا شراعات البيت القديم...... نظرت خلفي لمحت أخي وأولاده يهرولون بعصيِِِ و(نبابيت) أمهلت الخطى حتى لحق بنا يلهث ليخبرني أن الذئاب قد التهمت جميع أغنامه وطيوره ولما تذكرني أسرع الخطى خلفي ، كانت قد بانت ملامح البيت ، نظرت إلي التباب من حولي وهي تطل منها رؤوس الذئاب نافرة الأنياب والمخالب حتى وصلنا إلى البيت فأوصدنا الباب خلفنا وارتمينا بأجسادنا المنهكة بصحن البيت ، انطرحت على ظهري تطالعني صورة جدي الوحيدة العالقة بجداره وأريكته التي كان ينام عليها......؟